بِسْم ِ اِللهِ الرَّحمٰنِ الرَّحيم، ولا حَوْلَ ولا طَوْلَ إلَّا باللهِ العليِّ العظيم، والحمدُللهِ رَبِّ العالَمِين، فَاطرِ السّماواتِ والأراضين، وبارئِ كُلِّ الكائناتِ والمخلوقين. الحمدُللهِ أنْ هَدَاَنا إلى الإيمانِ، وأرشدَنَا إلى البِرِّ والإحسانِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على سَيِّدِ المُرسلين وأفْضَلِ النبيّينَ، المُصطفَى الهَادِي الأمين، وعَلَى آلهِ وصَحْبهِ الميَامين. أمَّا بَعْدُ،
أَبكيكَ لو نَقَعَ الغليلُ بُكائي وأقولُ لَوْ ذهبَ المقالُ بدَائي
وأعوذُ بالصَّبْرِ الجميلِ تعزّياً لو كانَ بالصَّبْرِ الجميلِ عزائي
كَمْ عَبْرةٍ نهْنَهتُها بأَناملي وسَتَرتُها متجمِّلاً برِدائي
كيفَ السُّلوُّ وكلُّ موقعِ لحظةٍ أَثَرٌ لِفَضلِكَ خالدٌ بإِزائي
لو كانَ يُبلِغُكَ الزَّمانُ رسائلي أو كانَ يُسمِعُكَ التّرابُ نِدائي
لَسَمعْتَ طُولَ تأوُّهي وتفجُّعي وعَلِمتَ حُسْنَ رِثائي ووَفائي
كُنْتَ في مَهْدِ الطّفُولةِ وفي عُمْرِ الثَّلاث سنين، سَاعَةَ رَحَلَ عَنْ هٰذِهِ الفانيةِ والدُكَ الشَّيخُ الدّيّان التّقيُّ الورِعُ، الجدُّ المرحوم أبويوسف سلمان زيدان أبويوسف، فنَشَأتَ وترعرَعْتَ في حِضْنِ الأُمِّ الرَّؤوم، والسّتِ الفاضلةِ الجدَّةِ المرحومةِ أمِّ سليمان زهرة رمّال أبويوسف، ورَعَاكَ الوالدُ المرحومُ الشَّيخُ أبو محمّد سعيد صالح أبويوسف، والخالُ المرحوم الشّيخ أبوعلي حسين رمّال. فلَيسَ غريباً أَنَّكَ نَشَأتَ على سَنَنِ التَّوحيد، وكبُرتَ على فِعْلِ الخيرِ والفضيلةِ وبَذْلِ المعروفِ للقَاصي والدّاني. ففي بيتِ الأجاويدِ نشأتَ، وعلَى محبّةِ كلِّ النّاسِ تربّيْتَ، وصغيراً عَنْ أكابر تلقّفْتَ المُثُلَ الإنسانيّةَ والخِصالَ الحميدةَ، يا مَنْ تَجلَّلْتَ بكَرَمِ المَحْتِدِ ونَجابَةِ الأصْلِ. لَقَدِ اتّسَمَتْ حياتُكَ الطّويلةُ العَريضةُ، بالعَمَلِ الجَادِّ المتُوَاصلِ لخدمةِ كُلِّ أبناءِ مُجتمعك، فشيَّدْتَ المبانيَ وأَقمتَ المشاغِلَ وعَقدْتَ الِاتّفاقياتِ المختلفةَ مَعَ الشّركاتِ الكَثيرةِ، ومَعَ صُندوقِ المرضَى، وكنْتَ قد عَملْتَ بالفلاحةِ في بدايةِ حيَاتِكَ مُحافظاً على تُرابِ الآباءِ والأجدادِ، ولٰكنَّكَ عَنْ كلِّ تِلْكَ المشاغلِ قد ترفّعتَ، فَلمْ تَكُنِ الأرباحُ المادّيّةُ دَيْدنَكَ، ولا المراكزُ المغريةُ هَدفَكَ، بَلْ وضَعْتَ نُصبَ عيْنيْكَ خدمةَ أبناءِ بلَدكَ ومُجتمعكَ، وإسْداءَ المعروفِ لكلِّ قاصدٍ مُحتاجٍ، ورفْعَ لواءِ الحقِّ ابتغاءً لرضَا الخالقِ، ولِثَوابِ الأبرارِ الصّالحين. نَعَمْ يا رفيعَ العمادِ، يا صاحبَ البيتِ الدَّافئِ الرَّحْبِ المُشَّرعَةِ أبوابُه في وَجْهِ كلِّ إنسانٍ لكونِهِ إنساناً، فكُلُّ منْ طَرقَ بَابَكَ ودَخَلَ بَيْتَكَ أَدركَ فِعْلاً ما يعنيهِ قِرَى الضَّيف، كيفَ لا وأنتَ وسَلَفُكَ مِمّن يُقالُ فيهم: “أَنْدى العالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ”. لا أَذكرُ في حياتي أنِّي رأيتُكَ ولَو مَرَّةً واحدةً، عابساً مُقطِّبَ الجَبين حَتَّى وحيَن كنتَ على فراشِ المرضِ، ونحنُ نعلمُ كَمْ عانَيتَ مِنَ الآلامِ والأوجاعِ والسُّهاد، ولٰكن دُونَ تبرُّمٍ أو تذمُّرٍ ما، لا بَلْ كنتَ دائمَ الحَمْدِ والشُّكرِ للخالقِ الكريمِ، وإنْ هٰذا إلّا لعُمقِ إيمانكَ بقضائِهِ جَلَّ وعَلَا، وبأَنَّ الصَّبْرَ مَطيَّةُ المؤمنين… يا مَنْ حَبَاكَ الله تعالى وَقاراً جَلَّلهُ بِشْرٌ أخّاذ، يا ذَا الوَجْهِ المُشرقِ إنْسَانيَّةً، فَقَدْ صَفَتْ أَسَاريرُهُ لصَفَاءِ قَلْبِكَ العَامرِ بالمحبَّةِ واليَقينِ والإيمان. وَاخَالَاه!… مَا كانَ ألطَفَ مَعْشرَكَ! ومَا كانَ أحلَى اللِّقاءَ بكَ والجلوسَ إلى جانِبك! فلَطالَما غَمرتَنا وغمرتَ ذَوِيكَ وأَصْدقَاءَك وضُيوفَكَ بعَطْفِكَ ولُطفِكَ وحَدْبِكَ وحُنُوِّكَ وبشَاشةِ وجهِكَ السَّمْحِ، فأسَرْتَ قلبَ كلِّ مَنْ جَالسَكَ، وأشْعرتَهُ بدِفءِ الحنَان، وبالأُنسِ والِاطمئنان. هُوَ ذا أَنْتَ أيُّها القُدْوةُ الحَسَنةُ والمِثالُ الأعلَى، يا مَنْ كُنتَ لَنا خَالاً وأَباً وصديقاً واعظاً ومُرشداً حكيماً في كلِّ شاردةٍ ووَاردةٍ. حقّاً أيُّها الشَّيخُ السّاكتُ السِّكّيتُ، القَانِعُ القانتُ، الوَرِعُ الدّيّانُ منذُ نُعومةِ أَظفارِك، يَا مَنْ تحلَّيْتَ بصَمتِ الإحسَاسِ عَنْ صَخَب الحَواسّ، فجاءَ صمتُكَ فِكْراً وفِكرُكَ ذِكراً، يا مَن كُنتَ مُتوَاضعاً في كِبَرِكَ، كبيراً شامخاً في تواضُعِكَ… سَنتُوقُ لرؤيةِ مُحيَّاكَ السَّنيِّ ما رنّمَ الأَيكُ في الشّجَر، وستهفُو نفوسُنا للجُلوسِ مَعَكَ ما تألَّقَ بَدْرٌ في السَّحَر، ولٰكن أقولُها لكَ والحَسْرةُ تعتصِرُ الفؤاد:
– وَدَاعاً أَيُّها الأَبيُّ التَّقيُّ النَّقيُّ الوفيّ.
– وَدَاعاً أَيُّها الشَّهْمُ الهُمامُ النَّبيلُ الأَصيل.
– وَدَاعاً أَيُّها اللَّبيبُ الأَديبُ الأَرِيبُ النَّجيب.
– وَدَاعاً أَيُّها النَّدْبُ الحَليمُ الحمَيمُ الكريم.
– وَدَاعاً أَيُّها الإنسَانُ الرَّؤوفُ العَطُوفُ الأَنُوف.