محاضرة القيت في اليوم الدراسي في مقام النبي شعيب (ع)
أودّ أن أفتتح كلمتي هذه، بالإشارة إلى ما حلّ بأهلنا في السّويداء والجبل الأشمّ، والتّأكيد على أنّ الموحّدين الدّروز، لم يكونوا يومًا عابري سبيل في هذه المنطقة، بل انّ تاريخهم ومذهبهم هما أكبر شاهد على كونهم، مكوّنا اجتماعيا وثقافيا أصليا، ارتبط وجوده منذ البداية، بفترة الازدهار والزّهوّ للحضارة الاسلاميّة، وبإحدى اهم الإنجازات الحضاريّة والتّاريخيّة للإسلام، ألا وهي الدّولة الفاطميّة، الّتي نشأ مذهب التّوحيد في كنفها، وترعرع في أروقة الفكر والإبداع الّتي جاءت بها. وفي الواقع، فإنّ ظهور الدّولة الفاطميّة، في مطلع القرن العاشر الميلادي، جاء في خضمّ نهضة ثقافيّة فكريّة غير مسبوقة، شهدها العالم الإسلامي في تلك الفترة, انعكست في التّعدّديّة الفكريّة والفقهيّة والمذهبيّة والأدبيّة، الّتي عرفها المشهد الإسلامي. ولعلّ هذه الفترة، وبحقّ، كانت العصر الذّهبي للحضارة الإسلاميّة. ومن ضمن ما شهدته الحضارة الإسلاميّة في هذه الفترة، كان ظهور مذاهب ومدارس وتيّارات فكريّة، ترافَق مع ازدهار غير مسبوق للحالة الشّيعيّة.
وإذا أردنا إجمال الطّفرة الإبداعيّة، الّتي امتازت بها الحضارة الإسلاميّة في تلك الفترة، والّتي كانت الطّفرة الإبداعيّة للحالة الشّيعيّة جزءا منها، فيمكن القول، إنّ البدايات كانت في مشروع التّرجمة الّذي أسّسه الخليفة العبّاسي المأمون، الّذي عُرِف بميوله المعتزليّة، والّتي استوعبتها فيما بعد المذاهب الشّيعيّة والاسماعيليّة على رأسها. فجاءت حركة التّرجمة مشروعًا حضاريًّا، بامتياز أثرى الحضارة الاسلاميّة، ونقل إليها كنوز الحضارة اليونانيّة الّتي كانت ولا زالت ركنًا سياسيًّا في التّنظير العقلاني، الّذي امتاز به مذهب التّوحيد. ومن ثمّة امتدّت التّرجمة من خلال المعتزلة، إلّا أنّ المشهد الثّقافي آنذاك، شهد ظهور العلماء أصحاب الفقه، إلى جانب الحكماء أصحاب العلوم، إلى جانب الفلاسفة أصحاب الفلسفة، إلى جانب الأدباء، إلى جانب الكُتّاب، طبقة الموظفين الموروثة عن حضارة الفرس ما قبل الإسلام.[1]
في هذا السّياق الثّقافي – الفنّي، كانت بدايات الاسماعيليّة، الّتي جمعت بين النّص والعقل والفلسفة ونظريّة الفيض والمدّ التّغييري السّياسي، وشكّلت القاعدة الأيديولوجيّة والفكريّة لانطلاق مشروع الدّولة الفاطميّة.
جاء ظهور الدّولة الفاطميّة، جزءا من بزوغ ثوري للشّيعة بكلّ مذاهبها وتفرّعاتها، حيث نزع المستشرقون إلى تسمية القرن العاشر الميلادي بالقرن الشّيعي، نظرًا لحالة الازدهار السّياسي والثّقافي والفكري، الّتي شهدتها الشّيعة. ومن ضمن ذلك، الحالة الفاطميّة. فجاء تأسيس الدّولة الفاطميّة في شمال أفريقيا وأرض الكنانة، امتدادًا للتمدد السّياسي للشّيعة، من إيران شرقًا وحتّى شمال أفريقيا غربًا. فكان تأسيس الدّولة الزّيديّة في طبرستان في إيران، ومنها انتقلت إلى اليمن، حيث تأسّست الدّولة الزّيديّة، الّتي حكمت اليمن على مدى ألف عام. وفي السّياق ذاته، تأسّست الدّولة الحمدانية في شمال سوريّا والعراق. وبدلًا من ثقافة حفر القبور، وقطع الرؤوس، وسبي النّساء، ونحر الرّجال، الّتي طلع بها تنظيم الدّولة الإسلاميّة في شمالي سوريا والعراق، جاءت الدّولة الحمدانيّة، بمشروع ثقافي متسامح، وفيها بزغ نجم الشّاعر الكبير المتنبّي، الّذي رعاه الأمير سيف الدّولة الحمداني. وفي شبه جزيرة العرب، تأسّست دولة القرامطة الّتي كانت، وبحقّ، أوّل تجربة فيها نوع من الاشتراكيّة في الإسلام. ولم يتوقّف الامتداد الشّيعي عند هذا الحدّ، بل جاء استيلاء قبائل الدّيلم الفارسيّة القادمة من إيران على بغداد، عاصمة الخلافة الإسلاميّة، وتأسيسها الدولة البويهية، التي ارست لنظام سياسي، أبقى على الخلافة بعد تجريدها مما تبقّى لها من نفوذ وسلطة. إلّا أنّ الدّولة الفاطميّة بمشروعها السّياسي والثّقافي والتّجاري، كانت دُرّة التّاج في مشروع التّمدّد الشّيعي. ولعلّ أبرز ما ميّز الدّولة الفاطميّة، أنّها لربّما الدّولة الوحيدة الّتي ظهرت في هذا الشرق، وسُمّيت باسم امرأة، باسم فاطمة الزّهراء، عليها السّلام، ابنة الرّسول الأعظم، وزوجة الخليفة الراشدي علي، وسيّدة نساء العالمين. كما أنّ الدّولة الفاطميّة، لم تتردّد في إطلاق مشروع، يتحدّى هيمنة القبيلة على الدّولة، عندما سُمّيت الدّولة بالخلافة الفاطميّة، وسُمّيَ حاكمها بالخليفة. ولعلّنا في هذا الزّمن العصيب والمظلم، نستمدّ القوّة من كوننا جزءا وسليلا من هذا الإرث الحضاري العريق، الّذي لم يقدّم للإسلام إلّا البناء والعمران والازدهار والفكر والتّجارة، فكانت الدّولة مشروعا حضاريا متكاملا، شهد لها المؤرّخون، من تماهي معها كما شهد لها ممّن تحفّظ عليها، بسبب صبغتها المذهبيّة.
كان التّأسيس لمبدأ الشّراكة، القاعدة الأولى الّتي اعتمدت عليها الدّولة الفاطميّة، ورُغم أنّ الحلقة الفكريّة والسّياسيّة المُؤسّسة للدّولة الفاطميّة، كانت اسماعيليّة في انتمائها ومصادرها الفكريّة، إلّا أنّها أسّست بشراكة مع أكبر قبائل البربر السُّنّيّة بني كتامة، ولم تحاول يومًا فرض مذهبها أو رُؤيتها الدّينيّة على أهل مصر من المسلمين السُّنّة، بل على العكس، دأبت الدّولة الفاطميّة على اكتساب شرعيّتها من خلال تعميم فكرة محبّة أهل البيت، ولا زالت الاضرحة والاتربة في مصر شاهدة على نجاح الدّولة الفاطميّة في زرع محبّة أهل البيت بين عموم المصريين، من خلال ضريح الحسين ومسجد السّيدة زينب وغير ذلك، إلّا أنّ هذا التّسامح وان أُغفل في مرحلة قصيرة من تاريخ الدّولة الفاطميّة، كان عنوان التّعامل مع أهل الكتاب، وأبرز مثال على ذلك، كان تعيين أبو الفرج يعقوب بن كلس يهوديّ المولد، من بغداد وزيرًا للدّولة الفاطميّة. ولم يكن الوزير يعقوب بن كلس حالة صوريّة أو تجميليّة إنّما كان عنصرًا مؤثِّرًا حيث أنّه:
“ولما تولّى يعقوب بن كلّس الوزارة للعزيز بالله سنة 368ه/979م، رتّب في العام التّالي في داره “مجالس” للعلماء والشّعراء والفقهاء والمتكلّمين وأجرى لجميعهم الأرزاق، وكان يقرأ على النّاس “الرّسالة الوزيريّة” وهي كتابٌ ألّفه في فقه الإسماعيليّة يتضمّن ما سمعه من المعزّ لدين الله وابنه العزيز بالله”.[2]
ورغم أنّ الدّافع المصلحي في دمج أهل الذّمّة او أهل الكتاب واضح في الحالة الفاطميّة، إلّا أنّه يمكن القول أنّ نموذج التّسامح مع أهل الكتاب ودمجهم في كيانها كان ركنًا مؤسّسًا من أركان السّياسة الفاطميّة.
لم تُهمل الدّولة الفاطميّة مشروع العمران، فقدّمت للعالم الإسلامي مدينة القاهرة بجوامعها وبمآذنها، كما قدّمت مجالس الحكمة الّتي كان يتولاها في السّتّين عامًا الأولى من عهد الدّولة الفاطميّة في مصر، قاضي القضاة وشكّلت مركزًا حيًّا للاجتهاد الفكري، ولتأهيل الدّعاة الاسماعيليين، واطلاقهم إلى أرجاء المعمورة. حيث كانت مجالس الحكمة تُعقد خلال يومين في الأسبوع خمسة مجالس:
مجلس للأولياء، ومجلس للخاصّة وشيوخ الدّولة ومجلس لعُوّام النّاس وللطّارئين على البلد ومجلس للنّساء ومجلس للحرم وخواصّ نساء القصر. [3]

ولعلّ أهمّ هذه المجالس كان جامع الأزهر، الّذي بناه الفاطميّون ليتحوّل فيما بعد، إلى إحدى أهمّ معاقل تدريس الفقه الإسلامي. وممّا لا شكّ فيه، أنّ الجهد الواضح للفاطميين في مجالس الثّقافة والتّعليم، تركّز في دار العلم، الّتي أنشأها مولانا الحاكم بأمر الله، والّتي عدّها بعض الباحثين استمرار للثّقافة الهيلينيّة والّتي كتب عنها المُسبحي:
“وفي يوم السّبت هذا، يوم السّبت العاشر من جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وثلاثمئة، فتحت الدار الملقبة بدار الحكمة بالقاهرة. وجلس فيها الفقهاء وحملت الكتب إليها من خزائن القصور المعمورة، ودخل الناس إليها ونسخ كل من التمس نسخ شيء مما فيها ما التمسه، وكذلك من رأى قراءة شيء مما فيها. وجلس فيها القرّاء والمنجّمون وأصحاب النّحو واللغة والأطباء، بعد أن فرشت هذه الدار وزُخرفت وعُلِّقت على جميع أبوابها وممراتها الستور، وأقيم قوام وخدّام وفرّاشون وغيرهم رسموا بخدمتها. وحصل في هذه الدار من خزائن أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله من الكتب التي أمر بحملها إليها من سائر العلوم والآداب والخطوط المنسوبة ما لم يُرَ مثله مجتمعًا لأحد قطّ من الملوك، وأباح ذلك كله لسائر الناس على طبقاتهم ممن يؤثر قراءة الكتب والنظر فيها. فكان ذلك من المحاسن المأثورة أيضًا الّتي لم يُسمَع بمثلها من إجراء الرّزق السّنّيّ لمن رسم له بالجلوس فيها والخدمة بها من فقيه وغيره، وحضرها الناس على طبقاتهم فمنهم من يحضر لقراءة الكتب، ومنهم من يحضر للنّسخ، ومنهم من يحضر للتّعلّم.. وجُعِلَ فيها ما يحتاج الناس إليه من الحبر والأقلام والورق والمحابر، وهي الدار المعروفة بمختار الصقلبي”.[4]
في هذا السياق, يقول الباحث المصري ايمن فؤاد سيد:
“ففي السّنوات الأولى لإنشائها حاول الحاكم أن يكسب حماس أهل السّنّة، فولّى أمرها جماعةً من شيوخ السّنّة كان على رأسهم، الحافظ عبد الغني بن سعيد، وأبو أسامة جُنادة بن محمّد اللُّغوي، وأبو الحسن عليّ بن سليمان المقريء الأنطاكي. وربّما قصد الحاكم من وراء ذلك، أن يسحب من جامع عمرو دوره المميز في صنع الفكر الدّينيّ في مصر. ولكن هذا الوضع لم يستمرّ طويلًا، ففي نهاية عام 399ه/1009م قُتِلَ الشّيخان أبو أسامة اللُّغوي، وأبو الحسن الأنطاكي، واضطرّ الشّيخ عبد الغني بن سعيد إلى الـتّستُّر. وفي سنة 400ه/1010م وقف الحاكم أوقافًا على عدد من المنشآت الدّينيّة هي جامع القاهرة (الأزهر) وجامع المَقس، وجامع راشِدَة، بالإضافة إلى دار الحكمة”.[5]
أمّا خزانة الكتب الفاطميّة، فكانت أهمّ المؤسّسات الثّقافيّة الفاطميّة الّتي صنّفها ابن أبي طيّ، بأنّها من عجائب الدّنيا، ويقال أنّه لم يكن في جميع بلاد الإسلام، دار كتب أعظم من تلك الّتي كانت بالقاهرة في القصر، ويقال إنّها كانت تشمل ألف وستمئة ألف كتاب. ورغم ما يبدو على الأرقام الّتي ذُكِرت عن حجم هذه المكتبة من مبالغة، إلّا أنّه يدلّ على عظم هذه المكتبة وما احتوت عليه من المجلّدات.
يُقدِّم ابن الطُّوَير، الّذي عاصر نهاية الدّولة الفاطميّة، وصفًا مثيرًا للإعجاب لتنظيم هذه الخزانة فيقول:
“وتحتوي هذه الخزانة على عدّة رفوف في دور ذلك المجلس العظيم [ يعني أحد مجالس المارستان العتيق] والرّفوف مقطّعة بحواجز، وعلى كلّ حاجز باب متقن بمفصّلات وقفل، وفيها من أصناف الكتب ما يزيد عن مئتي ألف كتاب من المجلّدات ويسير من المجردات؛ فمنها في الفقه على سائر المذاهب، والنحو، واللغة، وكتب الحديث النبوي، والتواري، وسير الملوك، والنجامة، والروحانيات، والكيمياء من كل صنف النسخة والعشرة، ومنها النواقص التي ما تُمِّمت، كل ذلك تترجمه ورقة ملصقة على باب كل خزانة وما فيها. والمصاحف الكريمة في كل مكان فيها فوقها، وفيها من الدروج بخط ابن مُقلَة ومن يليه ومن يماثله كابن البوّاب وغيره، وهي الّتي تولّى بيعها ابن صورَة في أيّام الملك الناصر صلاح الدّين”.[6] يصف الباحث المصري ايمن فؤاد السيد وصفا دقيقا لمدى اهتمام الخلفاء الفاطميين بالعلم واهله من خلال زياراتهم لخزانة الكتب حيث يكتب في هذا: ” وكان الخلفاء الفاطميون يكثرون من زيارة خزانة الكتب، وعلى الأخص في القرن السادس هجري، فكان الخليفة يجيء إليها راكبًا ثمّ يترجّل ويتّخذ مجلسه فوق دِكّة منصوبة، ويمثُل بين يديه أمين الخزانة ويأتيه بمصاحف مكتوبة بأقلام مشاهير الخطّاطين، وغير ذلك مما يقترح من الكتب، وكان الخليفة يأخذ منها ما يروقه للمطالعة ثمّ يعيده مرة أخرى”.[7]
لم يقتصر إبداع الفاطمييّن فقط على حقل الثّقافة بل كان الإبداع عنوان التّجديد الفاطميّ في كلّ مجال طرق الفاطميّون، فكان مثالهم الإداري مثالًا للتّنظيم، حيث أسّس الفاطميّون نظامًا إداريًّا استند إلى الهرميّة البادئة من الخليفة إلى الدّواوين الفاطميّة الّتي اختصّ فيها كلّ ديوان مجالا معيّنا، أهمّها ديوان الأحباس والبريد والتّرتيب والجيش والخراج والشّام وديوان العرائف وديوان الكُتامين والدّيوان المفرد والدّيوان الخاصّ وديوان النّفقات والمظالم والقضاء وكتابة القوّاد والأمراء وغيرها.[8] بهذا المعنى أبدعت الدّولة الفاطميّة وقدّمت مثالًا للدّولة المنظّمة لدولة المؤسّسات الّتي تعتمد الهرميّة والشّفافيّة.
شكّلت التّجارة الّتي أسّسها الفاطميّون نقطة تحوّل في تاريخ مصر والمنطقة بأسرها وحتّى عهد الفاطميين لم تلبس مصر دورًا مهمًّا في التّجارة المتّجهة إلى آسيا، وحاول أحمد ابن طولون أن يُطوّر تجارة مصر مع آسيا، إلّا أنّ مشروعه اندثر مع وفاته. فنجح الفاطميّون فيما فشل فيه الآخرون وسرعان ما أحكموا سيطرتهم على طرق التّجارة المؤدّية إلى الهند، الأمر الّذي أدّى إلى انتعاش اقتصادي غير مسبوق، كما أنّه شكّل أداة طيّعة لنشر الدّعوة الاسماعيليّة على طول الطّريق التّجاريّة، وبالتّالي تحوّلت الفسطاط والاسكندريّة إلى أكبر مراكز التّجارة في العصر الفاطمي لتصبح التّجارة الكارميّة الّتي اعتبرها المُستشرق الكبير شلومو جويتين على أنّها تعريب لكلمة كاريام أي الأعمال أو الأشغال بلغة التاميل وأنّها دلالة على عمق التّواصل التّجاري الّذي حقّقه الفاطميّون مع آسيا، ونشط فيها التّجّار المسلمون والمسيحيّون واليهود، كما تشير إلى ذلك بشكل واضح وثائق الجنيزا القاهرية (הגניזה)، حيث تكوّنت طبقة من التّجّار المُنتسبين إلى الطّبقة الوسطى، ولا بدّ من الإشارة هنا في ظلّ السّياسة الّتي تشهدها الدّولة، وبناءً على الدّراسات الّتي قام بها المستشرق الكبير جويتين، وبناءً على وثائق הגניזה فإنّ التّجّار اليهود شاركوا في التّجارة الكارميّة جنبًا إلى جنب، وعلى قدم المساواة مع التّجّار المسلمين في الدّولة الفاطميّة، حيث كان سائدًا قبل ذلك، أنّ هذه التّجارة اقتصرت فقط على التّجّار المسلمين، وأنّ من أراد المشاركة فيها، كان عليه اعتناق الإسلام، فالدّولة الفاطميّة وفّرت الحماية الخاصّة لتجّار الكارميّة. إلى جانب ذلك، شهدت الدّولة الفاطميّة تطوّرا غير مسبوق للطّوائف الحرفيّة גילדות، ذلك أنّ الحركة الاسماعيليّة وفقًا للمستشرق Massignon أرادت أن تجمع العالم الإسلامي تحت شعار العدالة الاجتماعيّة، وبالتّالي هي الّتي أوجدت الطّوائف الإسلاميّة، وأعطتها ميزتها الخاصّة، لا سيّما وأنّ رسائل إخوان الصّفا المنسوبة إلى الاسماعيليين، خصّصت فصلًا كاملًا للنّظر في الحِرف اليدويّة وشبوبها وتصنيفها. فهذه الطّوائف كانت أصنافًا للحِرف اليدويّة ومؤسّسات أخويّة اسماعيليّة.[9]
ويتقاطع مع هذا التنظير التاريخي الباحث الإسرائيلي اهارون لايش, خصوصا بكل ما يتعلق بمكانة المرأة في المذهب الإسماعيلي، ومن ثمّة مذهب التّوحيد، الذي انبثق منه إلى الطّابع والخلفية المدنيّة للإسماعيليّة، كحركة فكريّة ثوريّة مجدّدة. [10] وإذا أردنا أن نُصنّف مذهب التّوحيد الدّرزي، فلا يمكن بأي حال من الأحوال فصله عن معدنه الفاطمي، فمذهب التّوحيد جمع في رسائله زبدة المذاهب والمدارس والتّيّارات الفكريّة الّتي سبقت وجوده، من الفلسفة اليونانيّة والغنوصية والصّوفيّة والمعتزلة والاسماعيليّة، وجاء مكمِّلًا للفاطميّة في محتواه وتعدّديّته وعقلانيّته ونزعته التّوحيديّة الخالصة وصيغته الفلسفيّة – العقلانيّة الّتي اعتمدت العقل بوصله لصياغة عقائده. فلماذا نذهب إلى الغرب لاقتناء نموذجًا للبناء وللجمع ما بين الدّين والعلم, فالفاطمية منذ انطلاقها كانت تجسيدا لهذا الجمع الانسجامي ما بين الدين والعلم، وما بين العقيدة والعقل، وكم نحن بحاجة إلى عقول فاطميّة في هذا العصر المُظلم اللّا-عقلاني.
وهنا لا بدّ من الوقوف عند هذه النّقطة، وهي أنّ المذاهب الفكريّة الّتي سُمّيت في الأدبيّات الإسلاميّة بالفِرق الباطنيّة، نجحت في خلق نموذج فكري يقوم على إيجاد آليّات توافق بين العقل والنّصّ الإلهي، وبين الفلسفة والعقيدة الدّينيّة، مع الإدراك المطلق لحالات التّناقض الّتي لا مفرّ منها ولا بدّ منها. إنّ المخرج الوحيد من حالة اللّا-حداثة واللّا-تراث الّتي يعيشها مجتمعنا اليوم، هو في اتّخاذ النّموذج الفاطمي قاعدة تاريخيّة – فكريّة لإعادة فرز المنظومة القيميّة والاجتماعيّة لوجودنا في هذه المنطقة، بحيث نجمع بين التّمسُّك بقيمنا التّوحيديّة، ونرفض التّسليم بالمقولة الجوهرانيّة، أنّ العلم هو على الدّوام في صدام مع الدّين، فلدينا نموذجنا الفاطمي، خير بديل عن برودة الانفصام بين العلم والدين، الّذي قامت عليها الحضارة الأوروبيّة.

[1] للاستزادة عن ازدهار الحضارة الاسلامية في تلك الفترة راجع: J. Kraemer, Humanism in the Renaissance of Islam: The Culture revival during Buyid Times (Leiden, 1986).
[2] ابن الصيرفي, الاشارة الى من نال الوزارة, كما هو مُقتبس لدى: ايمن فؤاد سيد, الدولة الفاطمية في مصر: تفسير جديد (الطبعة الثالثة, القاهرة: الدار المصرية- اللبنانية, 2016), ص 584.
[3] ايمن فؤاد سيد, الدولة الفاطمية في مصر: تفسير جديد (الطبعة الثالثة, القاهرة: الدار المصرية- اللبنانية, 2016), ص 574- 583.
[4] المسبحي, نصوص ضائعة من تاريخ مصر, كما هو مُقتبس لدى: سيد, الدولة الفاطمية, ص 585- 586.
[5] فؤاد سيد, نفس المصدر, ص 586.
[6] ابن الطوير, نزهة المقلتين كما هو مُقتبس لدى فؤاد سيد, نفس المصدر, ص 595-596.
[7] فؤاد سيد, نفس المصدر, ص596.
[8] فؤاد سيد, نفس المصدر, ص 346-347.
[9] نفس المصدر, ص 502.
[10] Aharon Layish, Marriage, Divorce and Succession in the Druze Family. Leiden: Brill, 1982, pp. 366-7.