بسم الله الرحمن الرحيم
نودعهم واحدا واحدا، نبكي مع الجماهير الغفيرة على رحيلهم، نستهجن كيف سنكون بعدهم، ندعو لهم بالرأفة والرحمات، نستعيد ذكرياتنا معهم، ونعزّي أنفسنا أننا تباركنا بلقياهم وبالتواجد معهم، وبالتنوّر بأفكارهم، وهم ينضمّون بذلك إلى قائمة طويلة، عريقة، مبجلةـ خالدة من كبار التوحيد الذين اصطفاهم الله سبحانه وتعالى، وأكسبهم العقل والفكر والهداية، أن يكونوا المرشدِين، والقادة الروحيين، وأن تنعم الطائفة بوجودهم، وأن يهتدي بأفكارهم وتعاليمهم، كل من يواجه معضلة، أو مشكلة، أو استفسار، أو حتى نصيحة بسيطة، أجل، هؤلاء هم أساطين التوحيد، الذين سيظلّون خالدين أبد الدهر، مع أنهم رحلوا عنا جسديا، لكن هيبتهم، وأفكارهم، وأقوالهم، وأعمالهم، وتعاليمهم، تزيد من تراث هذه الطائفة العريقة، وتضفي عليها زخما من الحكمة والنور والمعرفة، من خلال تجارب وعقليات أولئك المرحومين، الذين تظل أسماؤهم وشخصياتهم منارات توحيدية مشرقة، في سماء طائفة التوحيد، تزيدها فخرا ورصانة وسؤددا.
المرحوم الفاضل الشيخ أبو عدنان ركان الأطرش، ابن جبل الدروز ، قلعة الكرم والأخلاق، قرية عرى، التي أنجبت قادة روحانيين وزمنيين، يُعتبرون من الصفوة المختارة للطائفة الدرزية على مر العصور. ولقد كان المرحوم يمتاز بالوجه البشوش، وبالأخلاق الحسنة، وبالمعاملة الطيبة، وبالروح السمحة، وبالابتسامة المشرقة، ومع أنه بلغ التاسعة والسبعين من عمره، إلا أن وجهه كان دائما تبدو عليه البراءة والطهر، وهذا ينمّ عمّا فيه من فضائل وأخلاق ومزايا، فأصبح اسمه مع الوقت مقرونا بالكبار، وبالذين منحهم الله سبحانه وتعالى، الرسالة لهداية وقيادة أبناء الطائفة،
وعندما نستعرض أمامنا الأولياء الصالحين، الذين حابانا الله بهم بعد الدعوة، نجد أن القائمة، والحمد لله، طويلة تشير إلى أن الطائفة الدرزية، طائفة صغيرة طيّبة، مسالِمة، أصيلة، شريفة، معطاءة، باسلة، لها دائما نوايا طيّبة وسمحة حتى مع ألدّ أعدائها، لذلك يسّر الله، سبحانه وتعالى قادة ذوي كفاءة، وقدرة، ومواهب، تُعتبر أحيانا فوق مستوى البشر، ولا عجب في ذلك، فإن الله، سبحانه وتعالى، إذا قرر أن يسند شخصية ما، وأن يدعمها، يؤهّلها ويوحي لها، بأن تقوم بدور أمام المجتمع الكلي للطائفة الدرزية. ولا يبخل عليها بالقدرات والإمكانيات والمؤهّلات،

وعندما ننظر إلى قائمة الكواكب والنجوم الزاهرة في تاريخنا بعد الدعوة، نجد أن هناك شخصيات فذّة لامعة، أسدت خدمة كبيرة للمجتمع التوحيدي، وقامت بحماية ورعاية أبناء الطائفة في حينه، ومهّدت أمامهم سبل الحياة في طريق التوحيد، وفي نطاق المناقب والتعاليم والأصول والمعارف التي رسمها ووضعها، وخطّطها لنا، أنبياؤنا وساداتنا، أركان دعوة التوحيد الدرزية. وقد مرّت على الطائفة الدرزية بعد الدعوة، بضعة قرون، تركّزت فيها شؤون الموحدين في تضميد الجروح، بعد المحن التي واجهت الطائفة، وفي إعادة الثقة، وفي تعزيز المبادئ والقيم، وفي ترسيخ مواقعنا وقرانا، في أراضينا البعيدة المنعزلة عن مراكز الحضارة، والتي تمّ فيها، صقل، واستيعاب دعوة التوحيد، والتمسّك بها، وتحويلها من جيل إلى جيل.
وقد قام سيدنا الأمير السيد عبد الله التنوخي، قدس الله سره بأكبر عملية إصلاح وإنعاش لدين التوحيد، حيث حدث في بعض الأماكن، وبسبب قلّة ممارسة الشعائر الدينية، بعض الشذوذ عن المبادئ الأصلية لدين التوحيد، فعمل قداسته على شرح وتبسيط الرسائل، كي تكون واضحة ومفهومة أمام الجميع، وجدّد بعض القوانين، ويسر الله، سبحانه وتعالى، في هذه الفترة للدروز شخصية روحانية دينية، وشخصية سياسية قيادية فذة، هما سيدنا الشيخ الفاضل محمد ابي هلال الذي كان من الذين استوعبوا وفهموا مبادئ دين التوحيد وقام بغرسها وزرعها أكثر وأكثر. آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر. والأمير فخر الدين المعني الثاني، مؤسس لبنان الحديث. ثم توالت الشخصيات الدينية العريقة في التجمعات الدرزية في سوريا ولبنان وإسرائيل، وكانت لكل شيخ أهميته ومكانته وأعماله وهو ما زال يُذكر بالقداسة وبالتقدير وبالاحترام، نذكر من بينهم على سبيل المثال أسيادنا ومشايخنا: الشيخ علي الفارس، والشيخ إبراهيم الهجري، والشيخ أبو حسين محمود فرج، والشيخ أمين طريف، والشيخ محمد الأشرفاني، والشيخ حسين ماضي، والشيخ أبو قسام الحناوي، والشيخ زين الدين عبد الغفار تقي الدين، والشيخ الجرمقاني، والشيخ أبو حسن عارف حلاوي، والشيخ أبو محمد جواد ولي الدين، ومعهم مجموعة كبيرة من المشايخ، نجلها ونحترمها، لا يسع المكان لذكرها.
كل هؤلاء، كوّنوا الهيكل المتطور الحديث لدين التوحيد، حيث حافظوا على التعاليم والعادات الشريفة، والفرائض الأساسية والتعاليم الجوهرية لدين التوحيد. وإيمانا منا بالقضاء والقدر، وبالعدالة الإلهية، والرضا والتسليم، بكينا في حينه على كل شخصية من هؤلاء، لكننا، وفي نفس الوقت، انبهرنا بإشراق توحيدهم وتعاليمهم، وتمسّكنا بها، وسرنا على هداها، وما زلنا سائرين.